فصل: كِتَابُ النُّذُورِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.كِتَابُ النُّذُورِ:

وَهَذَا الْكِتَابُ فِيهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ:
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي أَصْنَافِ النُّذُورِ.
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِيمَا يَلْزَمُ مِنَ النُّذُورِ وَمَا لَا يَلْزَمُ، وَجُمْلَةُ أَحْكَامِهَا.
الثَّالِثُ: فِي مَعْرِفَةِ الشَّيْءِ الَّذِي يَلْزَمُ عَنْهَا وَأَحْكَامِهَا.

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي أَصْنَافِ النُّذُورِ:

وَالنُّذُورُ تَنْقَسِمُ أَوَّلًا قِسْمَيْنِ:
قِسْمٌ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَقِسْمٌ مِنْ جِهَةِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُنْذَرُ.
فَأَمَّا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ فَإِنَّهُ ضَرْبَانِ:
مُطْلَقٌ وَهُوَ الْمُخْرَجُ مَخْرَجَ الْخَبَرِ.
وَمُقَيَّدٌ: وَهُوَ الْمُخْرَجُ مُخْرَجَ الشَّرْطِ.
وَالْمُطْلَقُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
مُصَرَّحٌ فِيهِ بِالشَّيْءِ الْمَنْذُورِ بِهِ، وَغَيْرُ مُصَرَّحٍ.
فَالْأَوَّلُ: مِثْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ أَحُجَّ.
وَالثَّانِي: مِثْلُ قَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ، دُونَ أَنْ يُصَرِّحَ بِمَخْرَجِ النَّذْرِ.
وَالْأَوَّلُ رُبَّمَا صَرَّحَ فِيهِ بِلَفْظِ النُّذُورِ، وَرُبَّمَا لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِهِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ.
وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ الْمُخْرَجُ مَخْرَجَ الشَّرْطِ: فَكَقَوْلِ الْقَائِلِ: إِنْ كَانَ كَذَا فَعَلَيَّ لِلَّهِ نَذْرٌ كَذَا، وَأَنْ أَفْعَلَ كَذَا، وَهَذَا رُبَّمَا عَلَّقَهُ بِفِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ نَذْرٌ كَذَا وَكَذَا، وَرُبَّمَا عَلَّقَهُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ نَذْرٌ كَذَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ أَيْمَانًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِأَيْمَانٍ، فَهَذِهِ هِيَ أَصْنَافُ النَّذْرِ مِنْ جِهَةِ الصِّيَغِ.
وَأَمَّا أَصْنَافُهُ مِنْ جِهَةِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي مِنْ جِنْسِ الْمَعَانِي الْمَنْذُورِ بِهَا: فَإِنَّهَا تَنْقَسِمُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: نَذْرٌ بِأَشْيَاءَ مِنْ جِنْسِ الْقُرَبِ، وَنَذْرٌ بِأَشْيَاءَ مِنْ جِنْسِ الْمَعَاصِي، وَنَذْرٌ بِأَشْيَاءَ مِنْ جِنْسِ الْمَكْرُوهَاتِ، وَنَذْرٌ بِأَشْيَاءَ مِنْ جِنْسِ الْمُبَاحَاتِ. وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: نَذْرٌ بِتَرْكِهَا، وَنَذْرٌ بِفِعْلِهَا.

.الْفَصْلُ الثَّانِي فِيمَا يَلْزَمُ مِنَ النُّذُورِ وَمَا لَا يَلْزَمُ:

وَأَمَّا مَا يَلْزَمُ مِنْ هَذِهِ النُّذُورِ وَمَا لَا يَلْزَمُ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى لُزُومِ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ فِي الْقُرَبِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّذْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا اتَّفَقُوا عَلَى لُزُومِ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الرِّضَا لَا عَلَى وَجْهِ اللَّجَاجِ، وَصُرِّحَ فِيهِ بِلَفْظِ النَّذْرِ لَا إِذَا لَمْ يُصَرَّحْ، وَسَوَاءٌ كَانَ النَّذْرُ مُصَرَّحًا فِيهِ بِالشَّيْءِ الْمَنْذُورِ أَوْ كَانَ غَيْرَ مُصَرَّحٍ. وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى لُزُومِ النَّذْرِ الَّذِي مَخْرَجُهُ مَخْرَجُ الشَّرْطِ إِذَا كَانَ نَذْرًا بِقُرْبَةٍ، وَإِنَّمَا صَارُوا لِوُجُوبِ النَّذْرِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ مَدَحَ بِهِ فَقَالَ: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ. وَأَخْبَرَ بِوُقُوعِ الْعِقَابِ بِنَقْضِهِ، فَقَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ الْآيَةَ، إِلَى قَوْلِهِ، {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي التَّصْرِيحِ بِلَفْظِ النَّذْرِ فِي النَّذْرِ الْمُطْلَقِ: هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي هَلْ يَجِبُ النَّذْرُ بِالنِّيَّةِ وَاللَّفْظِ مَعًا أَوْ بِالنِّيَّةِ فَقَطْ؟
فَمَنْ قَالَ بِهِمَا مَعًا إِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا، وَلَمْ يَقُلْ: نَذْرًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِوُجُوبِ شَيْءٍ لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِجِهَةِ الْوُجُوبِ. وَمَنْ قَالَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ اللَّفْظُ قَالَ: يَنْعَقِدُ النَّذْرُ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِلَفْظِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ (أَعْنِي: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِلَفْظِ النَّذْرِ أَنَّهُ يَلْزَمُ)، وَإِنْ كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ النَّذْرَ لَا يَلْزَمُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ وَاللَّفْظِ، لَكِنْ رَأَى أَنَّ حَذْفَ لَفْظِ النَّذْرِ مِنَ الْقَوْلِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، إِذْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْأَقَاوِيلِ الَّتِي مَخْرَجُهَا مَخْرَجُ النَّذْرِ النَّذْرَ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ فِيهَا بِلَفْظِ النَّذْرِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَنْ لَمْ يَرَ لُزُومَ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ حَمَلَ الْأَمْرَ بِالْوَفَاءِ عَلَى النَّدْبِ، وَكَذَلِكَ مَنِ اشْتَرَطَ فِيهِ الرِّضَا، فَإِنَّمَا اشْتَرَطَهُ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى جِهَةِ الرِّضَا، لَا عَلَى جِهَةِ اللَّجَاجِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَالنَّذْرُ عِنْدَهُ لَازِمٌ عَلَى أَيِّ جِهَةٍ وَقَعَ، فَهَذَا مَا اخْتَلَفُوا فِي لُزُومِهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ.
وَأَمَّا مَا اخْتَلَفُوا فِي لُزُومِهِ مِنْ جِهَةِ الْأَشْيَاءِ الْمَنْذُورِ بِهَا: فَإِنَّ فِيهِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْأُصُولِ اثْنَتَيْنِ:

.الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: [نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ]:

اخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَذَرَ مَعْصِيَةً: فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: لَيْسَ يَلْزَمُهُ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَسُفْيَانُ، وَالْكُوفِيُّونَ: بَلْ هُوَ لَازِمٌ، وَاللَّازِمُ عِنْدَهُمْ فِيهِ هُوَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، لَا فِعْلُ الْمَعْصِيَةِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ ظَوَاهِرِ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثَانِ أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ». فَظَاهِرٌ هَذَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ النَّذْرُ بِالْعِصْيَانِ. وَالْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الثَّابِتُ عَنِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ». وَهَذَا نَصٌّ فِي مَعْنَى اللُّزُومِ. فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا، قَالَ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ تَضَمَّنَ الْإِعْلَامَ بِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَلْزَمُ، وَهَذَا الثَّانِي تَضَمَّنَ لُزُومَ الْكَفَّارَةِ. فَمَنْ رَجَّحَ ظَاهِرَ حَدِيثِ عَائِشَةَ إِذْ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ حَدِيثُ عِمْرَانَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَيْسَ يَلْزَمُ فِي الْمَعْصِيَةِ شَيْءٌ. وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ أَوْجَبَ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ضَعَّفَ أَهْلُ الْحَدِيثِ حَدِيثَ عِمْرَانَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالُوا: لِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ يَدُورُ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَحَدِيثَ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ يَدُورُ عَلَى زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ، وَأَبُوهُ مَجْهُولٌ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ ابْنِهِ، وَزُهَيْرٌ أَيْضًا عِنْدَهُ مَنَاكِيرُ، وَلَكِنَّهُ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ. وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ يَحْتَجُّوا لِمَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، فَقَالَ: مَا بَالُ هَذَا؟
قَالُوا: نَذَرَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَجْلِسَ، وَيَصُومُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَجْلِسْ وَلْيُتِمَّ صِيَامَهُ»
. قَالُوا: فَأَمَرَهُ أَنْ يُتِمَّ مَا كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ، وَيَتْرُكَ مَا كَانَ مَعْصِيَةً، وَلَيْسَ بِالظَّاهِرِ أَنَّ تَرْكَ الْكَلَامِ مَعْصِيَةٌ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ نَذْرُ مَرْيَمَ، وَكَذَلِكَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْقِيَامُ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، إِلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ إِتْعَابِ النَّفْسِ، فَإِنْ قِيلَ: فِيهِ مَعْصِيَةٌ، فَبِالْقِيَاسِ لَا بِالنَّصِّ، فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [تَحْرِيمُ شَيْءٍ مِنَ الْمُبَاحَاتِ]:

وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ الْمُبَاحَاتِ باليمين، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَلْزَمُ مَا عَدَا الزَّوْجَةَ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: لَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فِي ذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ مَفْهُومِ النَّظَرِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِي لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ}. وَذَلِكَ أَنَّ النَّذْرَ لَيْسَ هُوَ اعْتِقَادُ خِلَافِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ (أَعْنِي: مِنْ تَحْرِيمِ مُحَلَّلٍ أَوْ تَحْلِيلِ مُحَرَّمٍ)، وَذَلِكَ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي هَذَا إِنَّمَا هُوَ لِلشَّارِعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَمَّا كَانَ هَذَا الْمَفْهُومُ أَنَّ مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا أَبَاحَهُ اللَّهُ لَهُ بِالشَّرْعِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ، كَمَا لَا يَلْزَمُ إِنْ نَذَرَ تَحْلِيلَ شَيْءٍ حَرَّمَهُ الشَّرْعُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أَثَرُ الْعَتَبِ عَلَى التَّحْرِيمِ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْكَفَّارَةُ تَحُلُّ هَذَا الْعَقْدَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ، وَالْفِرْقَةُ الْأَوْلَى تَأَوَّلَتِ التَّحْرِيمَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ كَانَ الْعَقْدُ بِيَمِينٍ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الشَّيْءِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ، وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي شَرْبَةِ عَسَلٍ. وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ فَهُوَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا، وَقَالَ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.

.الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي مَعْرِفَةِ الشَّيْءِ الَّذِي يَلْزَمُ عَنْهَا وَأَحْكَامِهَا:

وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي مَاذَا يَلْزَمُ فِي نَذْرِ نَذْرٍ مِنَ النُّذُورِ وَأَحْكَامِ ذَلِكَ؟
فَإِنَّ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، لَكِنْ نُشِيرُ نَحْنُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى مَشْهُورَاتِ الْمَسَائِلِ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ أَكْثَرَ ذَلِكَ بِالنُّطْقِ الشَّرْعِيِّ عَلَى عَادَتِنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَفِي ذَلِكَ مَسَائِلُ خَمْسٌ:

.الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: [الْوَاجِبُ فِي النَّذْرِ الْمُطْلَقِ]:

اخْتَلَفُوا فِي الْوَاجِبِ فِي النَّذْرِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَيْسَ يُعَيِّنُ فِيهِ النَّاذِرُ شَيْئًا سِوَى أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ، فَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: فِي ذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ لَا غَيْرَ.
وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ فِيهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ مِنَ الْقُرَبِ: صِيَامُ يَوْمٍ أَوْ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ. وَإِنَّمَا صَارَ الْجُمْهُورُ لِوُجُوبِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فِيهِ، لِلثَّابِتِ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: صِيَامُ يَوْمٍ، أَوْ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنَّمَا ذَهَبَ مَذْهَبَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْمُجْزِئَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَصَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ أَوْ صِيَامُ يَوْمٍ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ النَّذْرِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: فِيهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، فَخَارِجٌ عَنِ الْقِيَاسِ وَالسَّمَاعِ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [نَذْرُ الْمَشْيِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ]:

اتَّفَقُوا عَلَى لُزُومِ النَّذْرِ بِالْمَشْيِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ (أَعْنِي: إِذَا نَذَرَ الْمَشْيَ رَاجِلًا)، وَاخْتَلَفُوا إِذَا عَجَزَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ، فَقَالَ قَوْمٌ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَاذَا عَلَيْهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَذَهَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَى أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَمْشِيَ مَرَّةَ أُخْرَى مِنْ حَيْثُ عَجَزَ، وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَأَجْزَأَهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ. وَقَالَ أَهْلُ مَكَّةَ: عَلَيْهِ هَدْيٌ دُونَ إِعَادَةِ مَشْيٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا (يَعْنِي: أَنَّهُ يَرْجِعُ فَيَمْشِي مِنْ حَيْثُ وَجَبَ وَعَلَيْهِ هَدْيٌ)، وَالْهَدْيُ عِنْدَهُ بَدَنَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ إِنْ لَمْ يَجِدْ بَقَرَةً أَوْ بَدَنَةً.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُنَازَعَةُ الْأُصُولِ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمُخَالَفَةُ الْأَثَرِ لَهَا. وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ شَبَّهَ الْعَاجِزَ إِذَا مَشَى مَرَّةً ثَانِيَةً بِالْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْقَارِنَ فَعَلَ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي سَفَرَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا فَعَلَ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ فِي سَفَرَيْنِ قَالَ: يَجِبُ عَلَيْهِ هَدْيُ الْقَارِنِ أَوِ الْمُتَمَتِّعِ. وَمَنْ شَبَّهَهُ بِسَائِرِ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَنُوبُ عَنْهَا فِي الْحَجِّ إِرَاقَةُ الدَّمِ قَالَ: فِيهِ دَمٌ. وَمَنْ أَخَذَ بِالْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ قَالَ: إِذَا عَجَزَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَالسُّنَنُ الْوَارِدَةُ الثَّابِتَةُ فِي هَذَا الْبَابِ دَلِيلٌ عَلَى طَرْحِ الْمَشَقَّةِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ: وَأَحَدُهَا: حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَفْتَيْتُ لَهَا النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لِتَمْشِ وَلِتَرْكَبْ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.
وَحَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَتَيْهِ، فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ» وَهَذَا أَيْضًا ثَابِتٌ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: [نَذْرُ الْمَشْيِ إِلَى مَسْجِدِ النَّبِي أَوِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى]:

اخْتَلَفُوا بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى لُزُومِ الْمَشْيِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى مَسْجِدِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ الصَّلَاةَ فِيهِمَا، فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَحَيْثُ صَلَّى أَجَزْأَهُ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُ إِنْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عِنْدَهُ الْمَشْيُ بِالنَّذْرِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِمَكَانِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ صَاحِبُهُ: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ فِي مَسْجِدِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامَ لَزِمَهُ، وَإِنْ صَلَّى فِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ أَجْزَأَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى أَنَّ النَّذْرَ لِمَا سِوَى هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لَا يَلْزَمُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تُسْرَجُ الْمَطِيُّ إِلَّا لِثَلَاثٍ، فَذَكَرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَمَسْجِدَهُ، وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ». وَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّ النَّذْرَ إِلَى الْمَسَاجِدِ الَّتِي يُرْجَى فِيهَا فَضْلٌ زَائِدٌ وَاجِبٌ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِفَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ لِوَلَدِ الْمَرْأَةِ الَّتِي نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إِلَى مَسْجِدِ قُبَاءَ فَمَاتَتْ: أَنْ يَمْشِيَ عَنْهَا.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي النَّذْرِ إِلَى مَا عَدَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ: اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمَعْنَى الَّذِي إِلَيْهِ تُسْرَجُ الْمَطِيُّ إِلَى هَذِهِ الثَّلَاثِ مَسَاجِدَ، هَلْ ذَلِكَ لِمَوْضِعِ صَلَاةِ الْفَرْضِ فِيمَا عَدَا الْبَيْتَ الْحَرَامَ أَوْ لِمَوْضِعِ صَلَاةِ النَّفْلِ؟
فَمَنْ قَالَ: لِمَوْضِعِ صَلَاةِ الْفَرْضِ، وَكَانَ الْفَرْضُ عِنْدَهُ لَا يُنْذَرُ إِذْ كَانَ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ قَالَ: النَّذْرُ بِالْمَشْيِ إِلَى هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ غَيْرُ لَازِمٍ. وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ النَّذْرَ قَدْ يَكُونُ فِي الْوَاجِبِ، أَوْ أَنَّهُ أَيْضًا قَدْ يُقْصَدُ هَذَانِ الْمَسْجِدَانِ لِمَوْضِعِ صَلَاةِ النَّفْلِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» وَاسْمُ الصَّلَاةِ يَشْمَلُ الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ، قَالَ: هُوَ وَاجِبٌ. لَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ حَمَلَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى الْفَرْضِ مَصِيرًا إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «صَلَاةُ أَحَدِكُمْ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ» وَإِلَّا وَقَعَ التَّضَادُّ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي أَحَقُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ هَذَا الْبَابِ.

.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: [مَنْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ ابْنَهُ في مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ]:

وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَاجِبِ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ ابْنَهُ فِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ حكمه، فَقَالَ مَالِكٌ: يَنْحَرُ جَزُورًا فِدَاءً لَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَنْحَرُ شَاةً، وَهُوَ أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ يَنْحَرُ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُهْدِي دِيَتَهُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ يَحُجُّ بِهِ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ، وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (أَعْنِي: هَلْ مَا تَقَرَّبَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ هُوَ لَازِمٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَمْ لَيْسَ بِلَازِمٍ؟
فَمَنْ رَأَى أَنَّ ذَلِكَ شَرْعٌ خُصَّ بِهِ إِبْرَاهِيمُ قَالَ: لَا يَلْزَمُ النَّذْرُ).
وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ لَازِمٌ لَنَا قَالَ: النَّذْرُ لَازِمٌ. وَالْخِلَافُ فِي: هَلْ يَلْزَمُنَا شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا مَشْهُورٌ، لَكِنْ يَتَطَرَّقُ إِلَى هَذَا خِلَافٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ أَنَّهُ كَانَ خَاصًّا بِإِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يَكُنْ شَرْعًا لِأَهْلِ زَمَانِهِ، وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ هَلْ هُوَ شَرْعٌ لَنَا أَمْ لَيْسَ بِشَرْعٍ؟
وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ شَرْعٌ، إِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ اخْتِلَافِهِمْ أَيْضًا فِي هَلْ يُحْمَلُ الْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْوَاجِبِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، أَمْ يُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقُرَبِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَذَلِكَ إِمَّا صَدَقَةٌ بِدِيَتِهِ، وَإِمَّا حَجٌّ بِهِ، وَإِمَّا هَدْيُ بَدَنَةٍ.
وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، فَذَهَبُوا إِلَى حَدِيثِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.

.الْمَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: [مَنْ نَذَرَ أنْ يَجْعَلَ مَالَهُ كُلَّهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]:

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَجْعَلَ مَالَهُ كُلَّهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حكمه أَوْ فِي سَبِيلٍ مِنْ سُبُلِ الْبَرِّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ تَرْفَعُهُ الْكَفَّارَةُ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ نَذْرًا عَلَى جِهَةِ الْخَبَرِ لَا عَلَى جِهَةِ الشَّرْطِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ يَمِينًا. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَذَرَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الشَّرْطِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: مَالِي لِلْمَسَاكِينِ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَفَعَلَهُ، فَقَالَ قَوْمٌ: ذَلِكَ لَازِمٌ، كَالنَّذْرِ عَلَى جِهَةِ الْخَبَرِ، وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي النُّذُورِ الَّتِي صِيَغُهَا هَذِهِ الصِّيغَةُ (أَعْنِي: أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ).
وَقَالَ قَوْمٌ: الْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَقَطْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي النُّذُورِ الَّتِي مَخْرَجُهَا مَخْرَجُ الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ أَلْحَقَهَا بِحُكْمِ الْأَيْمَانِ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَأَلْحَقَهَا بِحُكْمِ النُّذُورِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِنَا فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ. وَالَّذِينَ اعْتَقَدُوا وُجُوبَ إِخْرَاجِ مَالِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي اعْتَقَدُوهُ، اخْتَلَفُوا فِي الْوَاجِبِ عَلَيْهِ: فَقَالَ مَالِكٌ: يُخْرِجُ ثُلُثَ مَالِهِ فَقَطْ.
وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ جَمِيعِ مَالِهِ، وَبِهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَزُفَرُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُخْرِجُ جَمِيعَ الْأَمْوَالِ الَّتِي تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ أَخْرَجَ مِثْلَ زَكَاةِ مَالِهِ أَجْزَأَهُ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ خَامِسٌ وَهُوَ: إِنْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا أَخْرَجَ خُمُسَهُ، وَإِنْ كَانَ وَسَطًا أَخْرَجَ سُبُعَهُ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا أَخْرَجَ عُشْرَهُ، وَحَدَّ هَؤُلَاءِ الْكَثِيرَ بِأَلْفَيْنِ، وَالْوَسَطَ بِأَلْفٍ، وَالْقَلِيلَ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ قَتَادَةَ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (أَعْنِي: مَنْ قَالَ الْمَالُ كُلُّهُ أَوْ ثُلُثُهُ): مُعَارَضَةُ الْأَصْلِ فِي هَذَا الْبَابِ لِلْأَثَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ حِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُجْزِيكَ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ» هُوَ نَصٌّ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ.
وَأَمَّا الْأَصْلُ: فَيُوجِبُ أَنَّ اللَّازِمَ لَهُ إِنَّمَا هُوَ جَمِيعُ مَالِهِ حَمْلًا عَلَى سَائِرِ النَّذْرِ (أَعْنِي: أَنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَصَدَهُ) لَكِنَّ الْوَاجِبَ هُوَ اسْتِثْنَاءُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، إِذْ قَدِ اسْتَثْنَاهَا النَّصُّ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: لَمْ يَلْزَمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَصْلُهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ حَلَفَ أَوْ نَذَرَ شَيْئًا مُعَيَّنًا لَزِمَهُ وَإِنْ كَانَ كُلَّ مَالِهِ، وَكَذَلِكَ يَلْزَمُ عِنْدَهُ إِنْ عَيَّنَ جُزْءًا مِنْ مَالِهِ وَهُوَ أَكْثَرُ مِنَ الثُّلُثِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِنَصِّ مَا رَوَاهُ فِي حَدِيثِ أَبِي لُبَابَةَ وَفِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي جَاءَ بِمِثْلِ بَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: أَصَبْتُ هَذَا مِنْ مَعْدِنٍ فَخُذْهَا فَهِيَ صَدَقَةٌ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهَا، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ جَاءَهُ عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ عَنْ يَسَارِهِ ثُمَّ مِنْ خَلْفِهِ، فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَذَفَهُ بِهَا، فَلَوْ أَصَابَهُ بِهَا لَأَوْجَعَهُ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ فَيَقُولُ: هَذِهِ صَدَقَةٌ، ثُمَّ يَقْعُدُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ، خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى» وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمَالُ الْمُعَيَّنُ إِذَا تَصَدَّقَ بِهِ وَكَانَ جَمِيعَ مَالِهِ، وَلَعَلَّ مَالِكًا لَمْ تَصِحَّ عِنْدَهُ هَذِهِ الْآثَارُ.
وَأَمَّا سَائِرُ الْأَقَاوِيلِ الَّتِي قِيلَتْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَضِعَافٌ، وَبِخَاصَّةٍ مَنْ حَدَّ فِي ذَلِكَ غَيْرَ الثُّلُثِ، وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي أُصُولِ هَذَا الْكِتَابِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.

.كِتَابُ الضَّحَايَا:

وَهَذَا الْكِتَابُ فِي أُصُولِهِ أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ:
الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي حُكْمِ الضَّحَايَا وَمَنِ الْمُخَاطَبُ بِهَا؟
الْبَابُ الثَّانِي: فِي أَنْوَاعِ الضَّحَايَا وَصِفَاتِهَا وَأَسْنَانِهَا وَعَدَدِهَا.
الْبَابُ الثَّالِثُ: فِي أَحْكَامِ الذَّبْحِ.
الْبَابُ الرَّابِعُ: فِي أَحْكَامِ لُحُومِ الضَّحَايَا.

.الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي حُكْمِ الضَّحَايَا وَمَنِ الْمُخَاطَبُ بِهَا:

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأُضْحِيَّةِ: هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ أَمْ هِيَ سُنَّةٌ؟
فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهَا مِنَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَرَخَّصَ مَالِكٌ لِلْحَاجِّ فِي تَرْكِهَا بِمِنًى، وَلَمْ يُفَرِّقِ الشَّافِعِيُّ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحَاجِّ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الضَّحِيَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُقِيمِينَ فِي الْأَمْصَارِ الْمُوسِرِينَ، وَلَا تَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِينَ، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَقَالَا: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: هَلْ فِعْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ أَوْ عَلَى النَّدْبِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضَّحِيَّةَ قَطُّ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ حَتَّى فِي السَّفَرِ عَلَى مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ قَالَ: «ذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُضْحِيَّتَهُ ثُمَّ قَالَ: يَا ثَوْبَانُ أَصْلِحْ لَحْمَ هَذِهِ الضَّحِيَّةِ، قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أُطْعِمُهُ مِنْهَا حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ». وَالسَّبَبُ الثَّانِي: اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي أَحْكَامِ الضَّحَايَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ حَدِيثِ أَمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ فَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ شَيْئًا، وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ». قَالُوا: فَقَوْلُهُ: «إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الضَّحِيَّةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ. وَلَمَّا أَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَبِي بُرْدَةَ بِإِعَادَةِ أُضْحِيَّتِهِ إِذْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِمَ قَوْمٌ مِنْ ذَلِكَ الْوُجُوبَ، وَمَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ لَا وُجُوبَ. قَالَ عِكْرِمَةُ: بَعَثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ بِدِرْهَمَيْنِ أَشْتَرِي بِهِمَا لَحْمًا وَقَالَ: مَنْ لَقِيتَ فَقُلْ لَهُ: هَذِهِ ضَحِيَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنْ بِلَالٍ أَنَّهُ ضَحَّى بِدِيكٍ، وَكُلُّ حَدِيثٍ لَيْسَ بِوَارِدٍ فِي الْغَرَضِ الَّذِي يُحْتَجُّ فِيهِ بِهِ فَالِاحْتِجَاجُ بِهِ ضَعِيفٌ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَلْزَمُ الَّذِي يُرِيدُ التَّضْحِيَةَ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنَ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ، وَالْحَدِيثُ بِذَلِكَ ثَابِتٌ.

.الْبَابُ الثَّانِي: فِي أَنْوَاعِ الضَّحَايَا وَصِفَاتِهَا وَأَسْنَانِهَا وَعَدَدِهَا:

وَفِي هَذَا الْبَابِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ مَشْهُورَةٌ:
إِحْدَاهَا: فِي تَمْيِيزِ الْجِنْسِ.
وَالثَّانِيَةُ: فِي تَمْيِيزِ الصِّفَاتِ.
وَالثَّالِثَةُ: فِي مَعْرِفَةِ السِّنِّ.
وَالرَّابِعَةُ: فِي الْعَدَدِ.

.الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: [فِي تَمْيِيزِ الْجِنْسِ]:

أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الضَّحَايَا مِنْ جَمِيعِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ مِنْ ذَلِكَ، فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي الضَّحَايَا الْكِبَاشُ، ثُمَّ الْبَقَرُ، ثُمَّ الْإِبِلُ، بِعَكْسِ الْأَمْرِ عِنْدَهُ فِي الْهَدَايَا. وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ: الْإِبِلُ، ثُمَّ الْبَقَرُ، ثُمَّ الْكِبَاشُ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى عَكْسِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ فِي الضَّحَايَا: الْإِبِلُ، ثُمَّ الْبَقَرُ، ثُمَّ الْكِبَاشُ، وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ، وَابْنُ شَعْبَانَ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِدَلِيلِ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ ضَحَّى إِلَّا بِكَبْشٍ، فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْكِبَاشَ فِي الضَّحَايَا أَفْضَلُ، وَذَلِكَ فِيمَا ذَكَرَ بَعْضُ النَّاسِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْبَحُ وَيَنْحَرُ بِالْمُصَلَّى».
وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَلِأَنَّ الضَّحَايَا قُرْبَةٌ بِحَيَوَانٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَفْضَلُ فِيهَا الْأَفْضَلَ فِي الْهَدَايَا، وَقَدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ لِمَذْهَبِهِ بِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا» الْحَدِيثَ، فَكَانَ الْوَاجِبُ حَمْلَ هَذَا عَلَى جَمِيعِ الْقُرَبِ بِالْحَيَوَانِ، وَأَمَّا مَالِكٌ فَحَمَلَهُ عَلَى الْهَدَايَا فَقَطْ، لِئَلَّا يُعَارِضَ الْفِعْلُ الْقَوْلَ وَهُوَ الْأَوْلَى.
وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِاخْتِلَافِهِمْ سَبَبٌ آخَرُ وَهُوَ: هَلِ الذِّبْحُ الْعَظِيمُ الَّذِي فَدَى بِهِ إِبْرَاهِيمُ سُنَّةٌ بَاقِيَةٌ إِلَى الْيَوْمِ، وَإِنَّهَا الْأُضْحِيَّةُ، وَإِنَّ ذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ}. فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا قَالَ: الْكِبَاشُ أَفْضَلُ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَتْ سُنَّةً بَاقِيَةً لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكِبَاشَ أَفْضَلُ. مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْوَاجِبُ الْمَصِيرُ إِلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَكُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الضَّحِيَّةُ بِغَيْرِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ قَالَ: تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِبَقَرَةِ الْوَحْشِ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالظَّبْيِ عَنْ وَاحِدٍ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [فِي تَمَيُّزِ الصِّفَاتِ]:

أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اجْتِنَابِ الْعَرْجَاءِ الْبَيِّنِ عَرَجُهَا فِي الضَّحَايَا، وَالْمَرِيضَةِ الْبَيِّنِ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءِ الَّتِي لَا تَنْقَى، مَصِيرًا لِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ مَاذَا يُتَّقَى مِنَ الضَّحَايَا؟
فَأَشَارَ بِيَدِهِ، وَقَالَ: أَرْبَعٌ. وَكَانَ الْبَرَاءُ يُشِيرُ بِيَدِهِ وَيَقُولُ: يَدِي أَقْصَرُ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا، وَالْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي»
. وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعِ خَفِيفًا فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي مَنْعِ الْإِجْزَاءِ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِيمَا كَانَ مِنَ الْعُيُوبِ أَشَدَّ مِنْ هَذِهِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا مِثْلَ الْعَمَى وَكَسْرِ السَّاقِ.
وَالثَّانِي: فِيمَا كَانَ مُسَاوِيًا لَهَا فِي إِفَادَةِ النَّقْصِ وَشَيْنِهَا (أَعْنِي: مَا كَانَ مِنَ الْعُيُوبِ فِي الْأُذُنِ وَالْعَيْنِ وَالذَّنَبِ وَالضِّرْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَلَمْ يَكُنْ يَسِيرًا). فَأَمَّا الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ: فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ أَشَدَّ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا أي الحيوان في الاضحية فَهِيَ أَحْرَى أَنْ تَمْنَعَ الْإِجْزَاءَ. وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إِلَى أَنَّهُ لَا تَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ، وَلَا يُتَجَنَّبُ بِالْجُمْلَةِ أَكْثَرُ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ الَّتِي وَقَعَ النَّصُّ عَلَيْهَا.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ هَذَا اللَّفْظُ الْوَارِدُ هُوَ خَاصٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، أَوْ خَاصٌّ أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ؟
فَمَنْ قَالَ: أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ وَلِذَلِكَ أَخْبَرَ بِالْعَدَدِ، قَالَ: لَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ فَقَطْ. وَمَنْ قَالَ: هُوَ خَاصٌّ أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ، وَذَلِكَ مِنَ النَّوْعِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ التَّنْبِيهُ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، قَالَ: مَا هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فَهُوَ أَحْرَى أَنْ لَا يُجْزِي.
وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الثَّانِي: (أَعْنِي: مَا كَانَ مِنَ الْعُيُوبِ فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ مُفِيدًا لِلنَّقْصِ أي الحيوان في الأضحية عَلَى نَحْوِ إِفَادَةِ هَذِهِ الْعُيُوبِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا لَهُ) فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ كَمَنْعِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ وَإِنْ كَانَ يُسْتَحَبُّ اجْتِنَابُهَا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ، وَابْنُ الْجَلَّابِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ وَلَا يُسْتَحَبُّ تَجَنُّبُهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَالثَّانِي: تَعَارُضُ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ. أَمَّا الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ: فَمَنْ رَآهُ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ قَالَ: لَا يَمْنَعُ مَا سِوَى الْأَرْبَعِ مِمَّا هُوَ مُسَاوٍ لَهَا أَوْ أَكْثَرُ مِنْهَا.
وَأَمَّا مَنْ رَآهُ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ - وَهُمُ الْفُقَهَاءُ - فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى فَقَطْ، لَا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْمُسَاوِي عَلَى الْمُسَاوِي، قَالَ: يَلْحَقُ بِهَذِهِ الْأَرْبَعِ مَا كَانَ أَشَدَّ مِنْهَا، وَلَا يَلْحَقُ بِهَا مَا كَانَ مُسَاوِيًا لَهَا فِي مَنْعِ الْإِجْزَاءِ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ. وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا (أَعْنِي: عَلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ، أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ) قَالَ: تَمْنَعُ الْعُيُوبُ الشَّبِيهَةُ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا الْإِجْزَاءَ، كَمَا يَمْنَعُهُ الْعُيُوبُ الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ مِنْهَا. فَهَذَا هُوَ أَحَدُ أَسْبَابِ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ مِنْ قِبَلِ تَرَدُّدِ اللَّفْظِ بَيْنَ أَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ الْمَعْنَى الْخَاصُّ، أَوِ الْمَعْنَى الْعَامُّ، ثُمَّ إِنَّ مَنْ فَهِمَ مِنْهُ الْعَامَّ، فَأَيُّ عَامٍّ هُوَ؟
هَلِ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ؟
أَوِ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ وَالْمُسَاوِي مَعًا عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ؟
وَأَمَّا السَّبَبُ الثَّانِي: فَإِنَّهُ وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْحِسَانِ حَدِيثَانِ مُتَعَارِضَانِ: فَذَكَرَ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْرَهُ النَّقْصَ يَكُونُ فِي الْقَرْنِ وَالْأُذُنِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا كَرِهْتَهُ فَدَعْهُ وَلَا تُحَرِّمْهُ عَلَى غَيْرِكَ». وَذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ، وَلَا يُضَحَّى بِشَرْقَاءَ وَلَا خَرْقَاءَ وَلَا مُدَابَرَةٍ وَلَا بَتْرَاءَ» وَالشَّرْقَاءُ: الْمَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ. وَالْخَرْقَاءُ: الْمَثْقُوبَةُ الْأُذُنِ، وَالْمُدَابَرَةُ: الَّتِي قُطِعَ مِنْ جَنَبَتَيْ أُذُنِهَا مِنْ خَلْفٍ. فَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: لَا يُتَّقَى إِلَّا الْعُيُوبُ الْأَرْبَعُ، أَوْ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهَا، وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَنْ حَمَلَ حَدِيثَ أَبِي بُرْدَةَ عَلَى الْيَسِيرِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ بَيِّنٍ، وَحَدِيثَ عَلِيٍّ عَلَى الْكَثِيرِ الَّذِي هُوَ بَيِّنٌ أَلْحَقَ بِحُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا مَا هُوَ مُسَاوٍ لَهَا، وَلِذَلِكَ جَرَى أَصْحَابُ هَذَا الْمَذْهَبِ إِلَى التَّحْدِيدِ فِيمَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ مِمَّا يَذْهَبُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، فَاعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ ذَهَابَ الثُّلُثِ مِنَ الْأُذُنِ وَالذَّنَبِ، وَبَعْضُهُمُ اعْتَبَرَ الْأَكْثَرَ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي ذَهَابِ الْأَسْنَانِ، وَأَطْبَاءِ الثَّدْيِ، وَأَمَّا الْقَرْنُ فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: لَيْسَ ذَهَابُ جُزْءٍ مِنْهُ عَيْبًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ يُدْمِي فَإِنَّهُ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْمَرَضِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمَرَضَ الْبَيِّنَ يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ. وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ: «أَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ أَعْضَبِ الْأُذُنِ وَالْقَرْنِ». وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّكَّاءِ (وَهِيَ الَّتِي خُلِقَتْ بِلَا أُذُنَيْنِ) حكم الاضحية بها، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهَا لَا تَجُوزُ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ خِلْقَةً جَازَ كَالْأَجَمِّ. وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْجُمْهُورُ أَنَّ قَطْعَ الْأُذُنِ كُلِّهِ أَوْ أَكْثَرِهِ عَيْبٌ، وَكُلُّ هَذَا الِاخْتِلَافِ رَاجِعٌ إِلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَبْتَرِ من الحيوان والاضحية بة: فَقَوْمٌ أَجَازُوهُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ الجُعْفِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قُرَظَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «اشْتَرَيْتُ كَبْشًا لِأُضَحِّيَ بِهِ، فَأَكَلَ الذِّئْبُ ذَنَبَهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ضَحِّ بِهِ». وَجَابِرٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَقَوْمٌ أَيْضًا مَنَعُوهُ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ الْمُتَقَدِّمِ.

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ]: [فِي مَعْرِفَةِ السِّنِّ]:

وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ (وَهِيَ مَعْرِفَةُ السِّنِّ الْمُشْتَرَطَةِ فِي الضَّحَايَا) فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَذَعُ مِنَ الْمَعَزِ، بَلِ الثَّنِيُّ فَمَا فَوْقَهُ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَبِي بُرْدَةَ لَمَّا أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ: «يُجْزِيكَ، وَلَا يُجْزِي جَذَعٌ عَنْ أَحَدٍ غَيْرِكَ». وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَذَعِ مِنَ الضَّأْنِ: فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِهِ، وَقَالَ قَوْمٌ: بَلِ الثَّنِيُّ مِنَ الضَّأْنِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْعُمُومِ لِلْخُصُوصِ. فَالْخُصُوصُ هُوَ: حَدِيثُ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَالْعُمُومُ هُوَ: مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ خَرَّجَهُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَلَا تُجْزِي جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ». فَمَنْ رَجَّحَ هَذَا الْعُمُومَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ مُدَلِّسٌ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ، وَالْمُدَلِّسُ عِنْدَهُمْ مَنْ لَيْسَ يُجْرِي الْعَنْعَنَةَ مِنْ قَوْلِهِ مَجْرَى الْمُسْنَدِ لِتَسَامُحِهِ فِي ذَلِكَ، وَحَدِيثُ أَبِي بُرْدَةَ لَا مَطْعَنَ فِيهِ.
وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى بِنَاءِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ عَلَى مَا هُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ فَإِنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ جَذَعَ الضَّأْنِ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا، وَهُوَ الْأَوْلَى، وَقَدْ صَحَّحَ هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو بَكْرِ بْنُ صَفُّورَ، وَخَطَّأَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ حَزْمٍ فِيمَا نَسَبَ إِلَى أَبِي الزُّبَيْرِ فِي غَالِبِ ظَنِّي فِي قَوْلٍ لَهُ رَدَّ فِيهِ عَلَى ابْنِ حَزْمٍ.

.[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ]: [فِي الْعَدَدِ]:

وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ (وَهِيَ عَدَدُ مَا يُجْزِي مِنَ الضَّحَايَا عَنِ الْمُضَحِّينَ): فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ أَنْ يَذْبَحَ الرَّجُلُ الْكَبْشَ أَوِ الْبَقَرَةَ أَوِ الْبَدَنَةَ مُضَحِّيًا عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ الَّذِينَ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ بِالشَّرْعِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُ الْهَدَايَا. وَأَجَازَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ أَنْ يَنْحَرَ الرَّجُلُ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعٍ، وَكَذَلِكَ الْبَقَرَةَ مُضَحِّيًا أَوْ مُهْدِيًّا. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْكَبْشَ لَا يُجْزِي إِلَّا عَنْ وَاحِدٍ، إِلَّا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ مِنْ أَنَّهُ يُجْزِي أَنْ يَذْبَحَهُ الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ لَا عَلَى جِهَةِ الشَّرِكَةِ بَلْ إِذَا اشْتَرَاهُ مُفْرَدًا، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «كُنَّا بِمِنًى فَدُخِلَ عَلَيْنَا بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْنَا مَا هُوَ؟
فَقَالُوا: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَزْوَاجِهِ»
. وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهَةِ لَا عَلَى وَجْهِ عَدَمِ الْإِجْزَاءِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْأَصْلِ فِي ذَلِكَ لِلْقِيَاسِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْأَثَرِ الْوَارِدِ فِي الْهَدَايَا. وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ أَنْ لَا يُجْزِي إِلَّا وَاحِدٌ عَنْ وَاحِدٍ، وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى مَنْعِ الِاشْتِرَاكِ فِي الضَّأْنِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْأَصْلَ هُوَ أَنْ لَا يُجْزِي إِلَّا وَاحِدٌ عَنْ وَاحِدٍ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّضْحِيَةِ لَا يَتَبَعَّضُ إِذْ كَانَ مَنْ كَانَ لَهُ شِرْكٌ فِي ضَحِيَّةٍ لَيْسَ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ مُضَحٍّ إِلَّا إِنْ قَامَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ عَلَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْأَثَرُ الَّذِي انْبَنَى عَلَيْهِ الْقِيَاسُ الْمُعَارِضُ لِهَذَا الْأَصْلِ فَمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: «نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعٍ». وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ: «سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ». فَقَاسَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ الضَّحَايَا فِي ذَلِكَ عَلَى الْهَدَايَا.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَرَجَّحَ الْأَصْلَ عَلَى الْقِيَاسِ الْمَبْنِيِّ عَلَى هَذَا الْأَثَرِ، لِأَنَّهُ اعْتَلَّ لِحَدِيثِ جَابِرٍ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ حِينَ صَدَّ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَيْتِ، وَهَدْيُ الْمُحْصَرِ بَعْدُ لَيْسَ هُوَ عِنْدَهُ وَاجِبًا وَإِنَّمَا هُوَ تَطَوُّعٌ، وَهَدْيُ التَّطَوُّعِ يَجُوزُ عِنْدَهُ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ، وَلَا يَجُوزُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْهَدْيِ الْوَاجِبِ، لَكِنْ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الضَّحَايَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَقَدْ يُمْكِنُ قِيَاسُهَا عَلَى هَذَا الْهَدْيِ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاشْتِرَاكُ لَا فِي هَدْيِ تَطَوُّعٍ وَلَا فِي هَدْيِ وُجُوبٍ، وَهَذَا كَأَنَّهُ رَدٌّ لِلْحَدِيثِ لِمَكَانِ مُخَالَفَتِهِ لِلْأَصْلِ فِي ذَلِكَ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي النُّسُكِ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعَةٍ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: «الْبَدَنَةُ عَنْ عَشَرَةٍ». وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي النُّسُكِ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعَةٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْآثَارَ فِي ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ. وَإِنَّمَا صَارَ مَالِكٌ لِجَوَازِ تَشْرِيكِ الرَّجُلِ أَهْلَ بَيْتِهِ فِي أُضْحِيَّتِهِ أَوْ هَدْيِهِ لِمَا رَوَاهُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ:مَا نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ إِلَّا بَدَنَةً وَاحِدَةً أَوْ بَقَرَةً وَاحِدَةً. وَإِنَّمَا خُولِفَ مَالِكٌ فِي الضَّحَايَا فِي هَذَا الْمَعْنَى (أَعْنِي: فِي التَّشْرِيكِ) لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى مَنْعِ التَّشْرِيكِ فِيهِ فِي الْأَجَانِبِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَقَارِبُ فِي ذَلِكَ فِي قِيَاسِ الْأَجَانِبِ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ مَالِكٌ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأَجَانِبِ وَالْأَقَارِبِ لِقِيَاسِهِ الضَّحَايَا عَلَى الْهَدَايَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ (أَعْنِي: حَدِيثَ ابْنِ شِهَابٍ). فَاخْتِلَافُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِذَا رَجَعَ إِلَى تَعَارُضِ الْأَقْيِسَةِ فِي هَذَا الْبَابِ (أَعْنِي: إِمَّا إِلْحَاقُ الْأَقَارِبِ بِالْأَجَانِبِ، وَإِمَّا قِيَاسُ الضَّحَايَا عَلَى الْهَدَايَا).